ثم دُعيت إلى دخول الصرح الذي أعدَّ لها:
"قيل لها: {ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وعيرشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا}.
قال سليمان لها: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ}.
وهنا أدركت أن ذكاءها البالغ قد خانها في هذه اللحظة، إذ امتحنت بأمر
لم يسبق لها فيه ملاحظة أن تجربة، فأعلنت إيمانها مع سليمان لله رب
العالمين.
"قالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44].
5- ومن الأحداث التي جرت لسليمان عليه السلام مروره على وادي النمل،
وذلك ما تضمنه قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ
الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا
أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ
ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ
رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتعير الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ
وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي
بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 17-19].
فهذه القصة تتضمن أن الله خلق في هذه النملة قوة إدراك أدركت به مرور
سليمان وجنوده في الوادي، فأمرت سائر النمل بدخول مساكنهم خشية أن يحطمهم
سليمان وجنوده وهم لا يشعرون، إذ لا غرض لهم بتحطيمهم، إنما هم قوم
يجتازون في طريقهم، وكان ذلك هبة خاصة اختص الله بها وادي النمل هذا من
دون سائر النمل.
وسمع سليمان قول النمل بما آتاه الله من معجزات، فتبسّم ضاحكاً من
قولها، وتأمل في ما آتاه من نعمة الرسالة، ونعمة الملك، ونعمة اختصاصه
بكثير من المعجزات، فدعا الله أن يُوزِعه - يلهمه - أن يشكر نعمته التي
أنعم بها عليه وعلى والديه، وأن يعمل عملاً صالحاً يرضاه، وأن يدخله
برحمته في عباده الصالحين.
6- وقد تعرض القرآن الكريم لحادثةٍ جرت لسليمان عليه السلام، تتصل
باهتمامه بإعداد خيول الجهاد في سبيل الله وإشرافه عليها، لأن الخيول كانت
من أعظم وسائل القتال قبل وجود هذه الآليات الحربية الحديثة.
وخلاصة هذه الحادثة: أنه عليه السلام كان قد أمر بإعداد مجموعة كبيرة
من خيول الجهاد، ثم أراد أن يشاهد ما بلغت إليه هذه الخيول وفرسانها من
قوة وترويض، فعقد لذلك مشهداً في عشية يوم من الأيام، فعرضت عليه مجموعة
الخيول بكامل عدتها الحربية، فسره مرآها، وأعجبته كثرتها وقوتها. ورأى
جنود سليمان وخاصته إعجابه بهذه الخيول وحبه لها، وإقباله على اقتنائها
ورياضتها، فقال مبيناً سرّ ذلك: "إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي"، أي:
إنني ما أحببت هذه الخيول تلبية لشهوة من شهوات النفس، ولا تحقيقاً لغرض
من أغراض الدنيا، وإما أحببتها ابتغاء تقوية دين الله، ونشر الحق والخير.
وإذا كان أناس يحبون أشياء من مظاهر الدنيا حب الشر، ورغبة في تلبية
المطالب الدنيئة للأَنفس، فإني أحببت حب الخير، ورغبة بتحقيق طاعة الله
تعالى. ثم إن هذا الحب ليس أثراً صادراً عن النفس التي تدفع كثيراً من ذوي
السلطان إلى الظلم والعدوان، وبسط النفوذ على الشعوب لأغراض دنيوية، ولكنه
أثر صادر عن ذكر الله تعالى، وذكر الله يدفع المؤمن إلى السعي في طاعته،
والعمل ابتغاء مرضاته، وإن من طاعة الله تعالى الإِعداد للجهاد في سبيل
نشر دينه.
ثم أمر عليه السلام بإجرائها فانطلق بها فرسانها من الجهة التي هو
فيها، وتابعها النظر "حتى توارت بالحجاب" أي غابت عن بصره، ثم قال: "ردوها
علي"، فلما وصلت إليه، وسرّه منظر صلفها وقوتها، وأعجبه ترويضها، أقبل
عليها وطفق في تواضع كريم يمسح بيده سوقها وأعناقها تكريماً لها.
وإلى هذه الحادثة أشار القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَوَهَبْنَا
لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ
عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ* فَقَالَ إِنِّي
أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ
بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ
وَالأَعْنَاقِ} [ص: 30-33].
7- وقد تعرض القرآن الكريم لقصّة فتنة سليمان، وإلقاء الجسد على
كرسيه، وذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا
عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنّعير أَنْتَ
الْوَهَّابُ} [ص: 34-35].
ولم يثبت بخبرٍ صحيح الأمر الذي فتن الله به سليمان، ولا المراد من
قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا}. وقد ذكر المفسرون
عدة وجوه يحتملها النص، ولكن لا سبيل إلى الجزم بواحد منها، ولأهل الحشو
حول ذلك قصص لا أصل لها! وعليه فنحن نفوض الأمر إلى الله تعالى حتى يأتينا
ما يكشف لنا المراد بوضوح.
وقد استأنس بعض المفسرين في شرح المراد من هذه الآية بما جاء في
الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن
سليمان قال:
لأطوفنَّ الليلة على سبعين امرأة تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل
الله تعالى، ولم يقل إن شاء الله، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة
جاءت بشق رجل. قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو قال إن شاء
الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون.
قالوا: فلعل المراد من فتنة سليمان ابتلاؤه بما آتاه الله من ملك
عظيم، ونساء كثيرات حرائر وإماء، وتمنيه أن يكون له من صلبه أولاد كثيرون
يقاتلون في سبيل الله، ويوطدون دعائم الدولة الربانية، ونسيانه تعليق ذلك
على مشيئة الله تعالى، وذلك إذ أخذ على نفسه أن يطوف في ليلة واحدة على
عدد كبير من نسائه، تأتي كل واحدة منهن بفارس يجاهد في سبيل الله، وتجاوز
بذلك حدود بشريته، ونسي أن يفوض تحقيق الأمر إلى مشيئة الله تعالى، فجوزي
على هذا بأن النساء اللواتي طاف عليهن لم يحملن منه إلا امرأة واحدة جاءت
بشق رجل. قالوا: فلعل هذا الشق هو المراد من قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا
عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا }، فلما رأى سليمان ذلك رجع إلى ربه وأناب،
وقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ
بَعْدِي إِنّعير أَنْتَ الْوَهَّابُ}. وبذلك فوض أمر توطيد الملك - الذي
لا ينبغي لأحد من بعده - في مملكته الربانية إلى الله تعالى، لا إلى
المجاهدين في سبيل الله من أولاده.
8- وقد تعرض القرآن المجيد أيضاً لقصّة موت سليمان عليه السلام، وبعض
الملابسات التي رافقت ذلك، فقال تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ
الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ
مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 14].
المنسأة: العصا.
فهذا النص القرآني يدلّ على أن سليمان عليه السلام قضى الله عليه
الموت فمات، وبقي أمر موته مجهولاً، وأنه كان قبل موته متكئاً على عصاه،
فلما مات بقيت العصا هي الحافظة لتوازن جسمه من أن يخرّ.
لبث هكذا حتى جاءت دابة الأرض - قالوا: وهي الأرضة - فأخذت تأكل
عصاه، إلى أن ضعفت العصا بتأثير الأرضة عن حمل جثة سليمان، فانكسرت فخرّ
جسمه على الأرض، عند ذلك علموا موته، وأقبلوا عليه ودفنوه، وظهر لهم بعد
البحث أن الموت قد حصل من زمن غير قصير. ولما رأت الجن - المسخرون لسليمان
بالأعمال الشاقة من كل بناء وغواص - ذلك تبينوا أن لو كانوا يعلمون الغيب
ما لبثوا في العذاب المهين هذه المدة الواقعة ما بين موته وعلمهم به!!
والذي يظهر: أن سليمان عليه السلام كان إذا دخل محرابه وخلا لنفسه،
واعتكف لعبادة ربه، لم يستطع أحد أن يدخل عليه - سواء كان من أهله أو من
غير أهله، وسواء كان من الإِنس أو من الجن - حتى يأذن له. وذلك بما وهبه
الله من هيبة وسلطان في الملك، وما يعلمون عنه من معجزات وخوارق عادات،
وقوى نافذة يستطيع أن يسخر بها الجن والطير، والريح الرخاء والريح
العاصفة، وبخاصة بعد أن استقر ملكه، وتمرس به نوَّابه، وكبرت سنه، وصار
ميّالاً للخلوات، يعبد فيها ربه، ويتجرد فيها من كل علائق الدنيا. وأما
طعامه وشرابه وحاجاته فإنهم يعلمون أن ذلك أيسر ما في الأمر عليه، فلا
يضعونها في حسابهم، بل يفوضون له الأمر، حتى يأمر بشيء منها.
وبهذا التحليل تُدفع طائفة الإِشكالات التي قد تخطر على البال حول
كيفية بقائه مدة من الزمن ميتاً، وهو ملك البلاد دون أن يعلم بذلك أهله
وخاصته، والجن والشياطين المسخرون للعمل بأمره. والله أعلم.