كلمة السبت
لسماحة الشيخ عبد الجليل المقداد(حفظه الله تعالى)بالبلاد القديم (مسجد الرفيع = جمّالة)
بتاريخ 10جمادى الآخرة 1429هـ
الموافق لـ: 14/6/2008م
خطأآن استراتيجيان:
من الأخطاء التي وقعنا فيها ـ وهي من الأخطاء الكبرى والإستراتيجية كما يقولون ـ والتي تستدعي أن نعيد النظر فيها هو ما يرتبط بهتين المسألتين:
المسألة الأولى مسألة الشرعية. والمسألة الثانية هي هذا التوهم الذي تولد عند الكثير منا في عدم القدرة على التغيير، وكلا الأمرين مثلا خطأين كبيرين جداً، وينبغي أن نعيد النظر فيهما.
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
القسم الأول: الحديث الأخلاقي:
هذه تتمة للحديث السابق الذي تناولنا فيه بعض كلمات الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، يقول(عليه السلام) في وصيته تلك:
(1) " تغلبه نفسه على ما تظن، ولا يغلبها على ما يستيقن..".في هذه الكلمة يوصي أمير المؤمنين(عليه أفضل الصلاة والسلام) بأن لا يكون الإنسان بحيث تغلبه نفسه ـ في أوهامها وظنونها ـ على يقينه؛ فإن كثيراً من الأمور نستيقن بها يقيناً جزماً ولكنا لا نقدم عليها؛ فمن منا لا يوقن أن العمل الصالح هو سبيل النجاة؟
مَن منا ينكر أنه يجب على العبد أن يقوِّي صلته بربه وأن يكون مطيعاً لأوامره؟
هذه أمور يقينية، وكثير من الأمور اليقينية التي نستيقنها إلا أن الكثير منا لا يستطيع أن يغلب نفسه ومعه هذا اليقين!
النفس موقنة أن العمل الصالح هو سبيل النجاة ولكن لا نستطيع أن نغلب أنفسنا على السير في هذا الطريق. ولكن ـ بالمقابل ـ تعال إليها في الأهواء فستجد أنها إذا توهمت استطاعت أن تُرغِم العبد بأن يجري معها، وتقوده إلى أوهامها وشكوكها بعد أن عجز الإنسان في أن يقود نفسه إلى يقينه، وإلى ما يجزم به، تغلبه نفسه على ما تظن وما تتوهم وما تحتمل وتقوده كما تُقاد الشاة!
لكنه لا يستطيع أن يغلب نفسه إذا كان متيقناً وكان جازماً! لاحظ قوة تأثير الهوى على الإنسان؛ بحيث أن الهوى وبهذه العدة وهذا العتاد السهل اليسير ـ الذي قوامه شكوك وأوهام وظنون ـ قادر على أن يغلب النفس!
الإنسان وبهذا العتاد الكبير من عقل وفكر وجزم لا يستطيع أن يقود نفسه!
" تغلبه نفسه على ما تظن، ولا يغلبها على ما يستيقن..". وهذا من قبيل إنسان توجد عنده يقينيات يستيقن بها ولكنه من ناحية عملية يتخلف عن السير بمقتضاها، كأن تقول له بأن الميت هل يلحقك أذى منه؟
يقول: لا.
هل يستطيع أن يضر؟ يقول: لا.
يستطيع أن يتحرك؟
يقول: لا. يستطيع أن يفعل شيء؟ قال: لا؛ هو جسم وجثة هامدة لا حراك ولا تأثير لها؛ فتجده يستشعر ذلك كله إلا أنه مع ذلك كله يغلبه الوهم.
إذا قلت له: مع كل هذه اليقينيات التي تراها هل تستطيع أن تبقى مع جنازة ليلاً وحدكما؟ فستجد أنه لا يستطيع ذلك؛ مع أنه يستيقن بأن هذا الميت لا ينفع ولا يضر ولا يتحرك وما ذلك إلا لأن نفسه في أوهامها وتخيّلاتها غلبت يقينياته!
(2) "يخاف على غيره بأدنى من ذنبه" :
مقدمة يا أخوة: الضابط والمعيار في أن هذا ذنباً عظيماً وأن هذا ذنباً ليس بعظيم ما هو؟
الضابط والمعيار في ذلك ليس هو ما عليه الناس؛ فالناس في كثير من الأحيان يستعظمون ذنوباً وهم يمارسون أشد منها!
الواحد منا قد يأسف على وضع ـ من هؤلاء الذين نأسف لحالهم ـ إلا أننا قد نكون نحمل من الذنوب ما هو أكبر مما عندهم! ليست المسألة ـ يا إخوة ـ أن " المعروف عندهم ما عرفوا والمنكر ما أنكروا " ؛ فإن هذه حالة خطيرة جداً، حين يكون المعروف معها هو الذي يراه الإنسان معروفاً، والمنكر هو ما يراه هو منكراً، وهذا يعني أن يترك الشارع ومذاقه وأحكامه على الأمور، ويحكم نظراته هو، ومذاقه هو، وهذا انقلاب واضح على الدين؛ ولرب معروف يكون في يوم معروفاً يتحول إلى منكر في يوم آخر وبالعكس حين تتغير نظرة ذلك الإنسان.
فالمعيار هو ما يراه الشارع ويحدده هو لا ما نراه نحن. وهذا يجري على موردنا فقد يرى الإنسان إنساناً يشرب الخمر ـ والعياذ بالله ـ فيستبشع فعله جداً، ويأسف لحال مرتكبِه؛ بينما قد يكون هو ممن يرتكب ما هو أشد منه ذنباً وأعظم كالكذب ـ مثلاًـ والذي هو أعظم عند الشارع من شرب الخمر تلك الجريمة العظيمة عند الله (تعالى).
وقد يأسف الإنسان على مرتكب ذنب من الذنوب ويستبشع فعله مع أنه قد يرتكب ما هو أعظم منه وأشد كالربا ـ مثلاً ـ والذي هو من أشد المحرمات عند الله (سبحانه وتعالى)،
ولا يقاس بشرب خمر ولا بفاحشة، وهو الذي قيل في التهديد والوعيد على فعله: "وذروا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ...."البقرة 278-279.
فمن غريب الإنفصام أن يستعظم الإنسان من أمر غيره ما هو متلبس بأشد منه! وهذا ما يقوله أمير المؤمنين(عليه السلام): " يخاف على غيره بأدنى من ذنبه" أو في كلمة أخرى لأمير المؤمنين(عليه السلام): " يستعظم من معصية غيره ما يستقل أكثر منه في نفسه" فيه صفة الكذب لا يعيرها أهمية ويستعظم صفة أخرى أقل منها سوءً في شخص آخر!
الشارع هو الذي يدلنا على أن هذا ذنب وذاك ليس بذنب، وهو الذي يدلنا على أن هذا الذنب أعظم من ذلك الذنب، وليست المسألة راجعة لتقييماتنا ومذاقاتنا.
(3) " يحب الصالحين ولا يعمل عملهم، ويبغض المذنبين وهو أحدهم": أفضل طريق لتهذيب النفس ـ والذي إذا خسره الإنسان صعبت عليه بقية الطرق ـ هو أن يتعلق قلب الإنسان المؤمن بالصالحين من أولياء الله، ويمد له جسراً معنوياً بينه وبينهم؛ فإذا استطاع الإنسان أن يتعلق التعلّق الصحيح، ويمد ذلك الجسر فلا إشكال في أنه سوف يلحق به الكثير من معنويات أولئك الأولياء.
محبة أهل البيت(عليهم أفضل الصلاة والسلام) وشدة الإرتباط بهم، والإقتداء بهم لها أثر كبير على سلوك الإنسان شريطة أن لا يكون " يحب الصالحين ولا يعمل عملهم"؛ فإن المحب لمن أحب مطيع.
ولذلك يا إخوة فإن قضية محبة أهل البيت ومحبة الصلحاء، والأولياء وقراءة حياتهم، والتأثر بسلوكياتهم وسيرتهم لها مردود قوي على حياة الإنسان وسيرته. وللكلام تتمة إن شاء الله.
الحديث الثاني: (الشأن العام):
خطأآن استراتيجيان:من الأخطاء التي وقعنا فيها ـ وهي من الأخطاء الكبرى والإستراتيجية كما يقولون ـ والتي تستدعي أن نعيد النظر فيها هو ما يرتبط بهتين المسألتين:
المسألة الأولى مسألة الشرعية. والمسألة الثانية هي هذا التوهم الذي تولد عند الكثير منا في عدم القدرة على التغيير، وكلا الأمرين مثلا خطأين كبيرين جداً، وينبغي أن نعيد النظر فيهما.
المسألة الأولى: مسألة الشرعية:
أما بالنسبة لمسألة الشرعية والتي في طرحها ـ بالطريقة التي تمت ـ وبالإصرار عليها جرّأنا الظالمين للتفنّن في اضطهادنا وظلمنا؛ فحين يرفع أنه لا يجوز لأحد أن يقف في وجه ظلم الظالم، وفي وجه مؤامراته وتخطيطه ضد العباد فإننا نكون ـ بذلك ـ قد جرّأنا الظالم على ظلمنا وعلى اضطهادنا وما هذه الجرأة والممارسات الوحشية التي نراها من هؤلاء إلا من بعض ما كنا قد لقنّاهم من " أن من يقفون في وجهكم لا يمتلكون الشرعية"!
لا أدري، هل أقول بأن هذه صيغة معدّلة من مقولة حرمة الخروج على ولاة الأمر؟ أو أقول بأنها ترتضع معها من ثدي واحد؟ أو ماذا أقول؟ لكن واقع الحال هو هذا، وهو أننا لقناهم وجرّأناهم على ظلمنا؛ والحال أن هذه المسألة لم تبحث في كلمات الفقهاء بتفاصيلها وتعقدياتها الدقيقة.
ولا أريد أن أقول من خلال ذلك أن مسألة الرجوع للحاكم الشرعي في قضايا الأمة ليست ثابتة أو واضحة بل هي واضحة ثابتة، وإنما أريد أن أقول أن الفراغ عن هذه النتيجة وهي أن رؤية الحاكم الشرعي ورؤية الشارع في واقعنا هو السكوت، والرضا والخنوع فهذه النتيجة ليست واضحة مطلقاً.
وذلك لأن هذه المسألة لم تبحث بحثاً فقهياً، وبالنسبة لي ففي حدود ما رأيت واطلعت لم أر أنها بحثت بحثاً علمياً بتفاصيلها؛ وانه إذا كان شعب مضطهد مظلوم يعيش حالة شبيهة بحالة الدفاع عن النفس إذا سكت؛ فمن المظنون بل المطمئن به أن يصل إلى حالة لا حول له معها ولا قوة، يخشى فيها على عقيدته، وعلى مذهبه، وعلى لقمة عيشه وكل خصوصاته التي طالما مرت الإشارة إليها، وفي هكذا وضع هل تكون نظرة الشارع هي السكوت؟
طبعاً، لا نقصد بالسكوت هو عدم الكلام ـ كما هو واضح ـ فقد يكون كلام ولكن المقصود بذلك هو السكوت في قبال العمل المُجدي.
أمام كل هذه الحيثيات نأتي ونقول بأن الشارع يقول بأن الحكم هو السكوت؟!!
نحن لا نقول بأنه علينا أن نُعدّ جيشاً ونواجه هؤلاء الظالمين، فلا يوجد جيش؛ وإنما ندعو لأن نمارس ضغطاً عبر الأساليب السلمية، والتي طالما أثبتت فاعليتها سواء كان ذلك على مستوى البحرين، أم على مستوى بقية الدول الأخرى، فالدعوى ليست هي الدخول في حرب مع هؤلاء الظالمين وإنما الدعوى أننا نمتلك مساحة من المناورة والمطالبة والضغط وبالأساليب السلمية.
هل هذه نتيجة فرغنا عنها من ناحية شرعية ؟
أنك وأنت ترى الظلم والإضطهاد والحيف والتخطيط والتآمر، ثم انك تريد أن تمارس ضغطاً سلمياً نقول أن النتيجة هي أن الشارع والشرعية ليست مع هذا التصرف!!
هذه نتيجة لم تبحث. هذا الأمر ـ كما قلت لكم ـ لم يبحث فقهياً بفروعه وتفاصيله. وإذا كان هذا الأمر لم يبحث فقهياً فكيف تطرح نتيجته على أنها أمر مسلّم؟!
هذه مسألة ينبغي إعادة النظر فيها، خصوصاً ـ أيها الإخوة ـ إذا كانت الشرعية تستند إلى قناعة خاصة؛ فهنا يتأكد الإشكال. الشرعية لا ينبغي أن تستند إلى قناعة خاصة. الشرعية أن تبحث هذه المسألة ويستفرغ الوسع، وتطرح للبحث العلمي وللمشورة، وتتناول من جميع جوانبها، حتى يرى الإنسان ما هو المحصّلة النهائية.
وفيما أرى أن هذه الطريقة، وهذا البحث، واستفراغ الوسع لم يحصل فكيف كانت النتيجة أنه لا شرعية؟؟! أنا لا أعلم .
المسألة الثانية: مسألة توهّم عدم القدرة على التغيير:
هذه المسألة لو طرحناها أولاً على الدين، وعلى ما نقل لنا من تجارب الشعوب، وعلى الإنتصارات التي حققها المسلمون، هذه المسألة لو طرحناها أولاً على تعاليم الدين فتعاليم الدين لا تقرها. وطالما ذكرت لكم الآيات الكريمة التي تعد المؤمنين بالنصر، والتي تبين أن النصر من عند الله، والتي تبين أن الله يدافع عن الذين آمنوا، والتي تبين أن المؤمنين لا ينبغي أن يخشوا الظالمين وعدتهم؛ فمن أين جاء هذا التوهم عن عدم قدرتنا على التغيير؟!
هذه نتيجة كذّبها الواقع أيضاً، وقد قالوا بأن من جرّب المجرّب حلت به الندامة.
عندما قام السيد الإمام الخميني(رحمة الله تعالى عليه) قال بعض الزوار الذين كانوا في إيران حينها وشاهدوا جنود الشاه في عدتهم وعتادهم ورأوا الشعب الأعزل، قالوا بأنه كيف يواجه هؤلاء الناس هؤلاء الجنود بعدتهم وعتادهم؟! ولكن الواقع كان خلافاً لهذه النظرة الضيقة وانتصر أولئك العزّل على الجنود المدججين بالسلاح والعدة والعتاد، وأطاحوا بأكبر قوة في المنطقة يدعمها الغرب.
كذلك حزب الله فإنهم أول ما أسسوا الحزب في الثمانينيات كانوا ثلة قليلة، أسسوا هذا الحزب من أجل مقاومة المحتل، وقد نقل أن الكثير كان يستهزأ بهم من أنكم ماذا تملكون حتى تقاوموا هذا المحتل؟!
ولكن الواقع أثبت خلاف ذلك؛ فلماذا نصر على أننا لا نستطيع أن نعمل شيئاً؟!
إن قيم الدين لا تساعد على ذلك، وما نقل لنا من انتصارات حققها المسلمون لم تكن بالعتاد والعدة والعدد دائماً، وإنما كانت بالصبر والإيمان والثبات، ولما أن وجد الله فيهم الصدق أنزل عليهم نصره.
وهذه المقولة لا تساعدها أيضاً ما نقل لنا من حالات الشعوب، حتى غير الإسلامية فكم شعوب كانت تحت ظلم الظالمين واستبدادهم لكنهم استطاعوا أن يخلصوا أنفسهم.
لماذا لا نولّد في أنفسنا هذه القناعة وأننا نستطيع أن نغيّر وأن الله سبحانه وتعالى معنا؛ لأننا مظلومون.
هاتان قضيتان تحتاجان إلى إعادة النظر، وليستا من القضايا المسلمات فيما نفهمه من دين الله سبحانه وتعالى.
وفقنا الله (سبحانه وتعالى) وإياكم لما فيه الخير والصلاح والحمد لله رب العلمين وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله الطاهرين